وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
في هذه الآيةِ الكريمةِ دعوةٌ صريحةٌ منَ الله تعالى لعبده المؤمن، إلى ضرورة المداوَمة على العبادة، حتى يَلقَى ربَّه، فاليقينُ في الآية هو الموت، وقد ضَلَّتْ شِرْذمة منحرِفة عنِ الشرع، حين فسَّرَتِ اليقينَ بمعرفة الله تعالى؛ فأسقطَتِ التكاليفَ عنها، وعن أتْباعها، إذا وصلَ أحدُهم إلى درجة المعرفة الحقَّة بالله؛ لأنَّ العباداتِ عندهم وسائلُ تتحقَّق مِن خلالها معرفةُ الله، ولا شك أنه لا حَظَّ لهذه الفئة منَ الإسلام، وما هي عليه هو الكفر بعينه.
إنَّ المؤمن اليَقِظ يحرص على العبادة حتى تُؤتي ثمارها، وتظهر عليه آثارُها، فليس منَ الفطنة في شيء أن يَعمدَ المسلم إلى القرآن، فيُداوم على قراءته طوال شهر رمضان المبارك، فتراه يقرأ في اليوم عدَّة أجزاء، فإذا خرج رمضان لم تبقَ له بالقرآن الكريم صِلة تُذْكَر، ولا موعد منتَظم.
هذا المسلَك غيرُ محمودٍ بحالٍ، ولو كان في شهر رمضان شهر القرآن، فهذا لا يسوِّغ لصاحبه أن ينتهجَ هذا المنهج.
إنَّ المداوَمة على العمل الصالح تُمِدُّ المؤمنَ بالهمَّة على مجاهدة نفسه، وتُبعد عنه الغفلة؛ ولهذا حَثَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم على المداوَمة على الأعمال، وإنْ كانت يسيرة قليلة؛ ففي الحديث الذي يرويه مسلم، عن عائشة رضي الله عنها يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أَحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى أَدْوَمُها، وإنْ قَلَّ)).
يقول الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: إنَّ القليل الدائم خيرٌ منَ الكثير المنقطع، وإنما كان القليل الدائمُ خيرًا منَ الكثير المنقطع؛ لأنه بدوام القليل تدُوم الطاعة، والذِّكْر، والمراقَبة، والنِّيَّة، والإخلاص، والإقبال على الله سبحانه، ويستمرُّ القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة.
ولهذا قال بعضُ الحكماء: إذا غفلَت النفسُ بترْك العبادة، فلا تأمن أن تعودَ إلى عاداتها السَّيِّئة، وصدَق ابنُ حزم حين قال: إهمال ساعة، يُفسد رياضة سَنَة.
نخلُص مِن هذا إلى أنَّ المسلم الحريص لا ينبغي له أن يَغفلَ عن هذا المعنى الجليل، وهو ضرورة المداوَمة على العبادة، فَمِنَ الخُسران المبين أن يَقطعَ عبادة داوَمَ عليها فترةً مِنَ الزَّمَن.
إنَّ رمضان مناسبةٌ للانطلاق إلى الأمام، والاستمرار في السَّيْر حتى يَلقَى المسلمُ ربَّه، وليس رمضان ظرفًا زمانيًّا نؤدِّي فيه العبادات، فإذا ذهب الشهرُ ذهبتْ هذه العبادات معه على أَمَلِ اللقاء بها في رمضان آخر.
أ.د. زيد بن عمر العيص