حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
هذه الآية واحدةٌ من آيات كثيراتٍ يُستدلُّ بها على غير مراد الله منها، وتوضع من قِبَل كثير من الدعاة في غير موضعها، وذلك حين يستدلُّ بها في سياق الحثِّ على التغيير، وأنه يبدأ من الناس أولاً، ثم يكون من الله بعد ذلك، وذلك حين يقولون في محاضراتهم ومواعظهم: إن الله لا يغيِّر ما في الناس من ضعف وتفرُّق وهوان وتسلُّط عدو، حتى يغيِّروا ما في أنفسهم من سوء وانحرافٍ عن الشرع، وإعراض عن الله -تعالى- فصار على هذا المعنى تغيير الله -تعالى- لأحوال الناس إلى الأفضل وانتقالهم من حالٍ مخزية إلى حالٍ مرضية – مشروطًا بتغيير الناس لأحوالهم أولاً.
إنَّ الآية المشار إليها لا تدلُّ على هذا المعنى، وليس هذا مراد الله منها، وحسبنا أن عامة المفسِّرين على خلاف هذا القول، والذي لم يُشِر إليه إلاَّ ابن كثير حين ذكر عند هذه الآية حديثًا يرفعه عليٌّ – رضي الله عنه – إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يفهم منه هذا المعنى، بَيْد أن ابن كثير قال بعد إيراده: “وهذا غريبٌ، وفي إسناده من لا أعرفه” (3: 504).
ذكر الطبري في تفسيره “جامع البيان” (13: 81) أن معنى الآية: “إن الله لا يسلب نعمة أنعمها على الناس أو عافية حتى يغيِّروا ما كانوا عليه من طاعةٍ لله، وذكر القول نفسَه الشوكانيُّ في “فتح القدير” (3: 69)، وذكره كذلك الألوسي في “روح المعاني” (13: 196)، بل إنَّ الفخر الرازي نقل في “تفسيره” (5: 188) إجماع المفسرين على هذا المعنى، وقال: لا يصح غيره.
أورد الأمين الشنقيطي في تفسيره “أضواء البيان” (3: 98) كلامًا شافيًا في معنى هذه الآية جاء فيه: “والمعنى: أنه لا يَسلب قومًا نعمة أنعمها عليهم حتى يغيِّروا ما كانوا عليه من الطاعة والعملِ الصالح، وبيَّن هذا في مواضع أخرى؛ كقوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال: 53]، وقوله: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقوله في هذه الآية: ﴿ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أُحُد بتغيير الرماة ما بأنفسهم، فعمَّت البلية الجميع، وقد سُئِل -صلى الله عليه وسلم- أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)).
إن هذا القولَ الذي يردِّده كثيرٌ من الوُعَّاظ والدعاة، والذي هو خلاف ما عليه عامة المفسرين – مردودٌ بأمور؛ منها: سياق الآية نفسها؛ فقد ورد فيها قوله -تعالى-: ﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَه ﴾ [الرعد: 11]، فدلَّ على أن التغيير المشار إليه هو من الأحسن إلى الأسوأ، ثم إن سنن الله في خلقه تردُّ هذا المعنى؛ لأن الله -تعالى- رحمةً بخلقه كلَّما بدأ منهم انحراف وتغيير بادرهم بإرسال الرسل إليهم ليصلحوا أحوالهم، ثم هو قول يبعث اليأس في النفوس. والله أعلم.
أ.د.زيد بن عمر العيص