فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ
توجيه ربانيٌّ كريمٌ لرسولينِ كريمين، بُعِثا إلى شخصيَّة طاغيةٍ، إلى فرعون، لقد أُمِرَا بالقول اللين، واللين في أصله من صفات الأجسام، وهو عبارةٌ عن رطوبة ملمس الجسم، وسهولة ليّه، ثم استعير لسهولة المعاملة والتلطُّف في القول.
واللين مطلوب في ذاته؛ لأنه مِن شعائر الدَّعوة إلى الحق، وقد أُمِر به الرَّسول محمد – صلى الله عليه وسلم -: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 159].
إنَّ اللين في الدعوة يُعين على التذكُّر، ويحمل على الخَشْية؛ ولهذا كان غاية ووسيلة في آنٍ واحد، فهو لا يتوقَّف على الخشية منَ المدعو؛ بمعنى: أنَّ الداعية إذا خاف منَ المدعو لَانَ له في القولِ، وإذا أمنه أغلظ له، فهذا المفهوم يرده سياق الآيات التي أمر الله بها موسى وهارون – عليهما السلام – بهذا الأمر؛ ذلك أنَّ الله – تعالى – قال لهما: ﴿ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 46]، فقد ضمن لهما السلامة – سبحانه – بعد أن قالا: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴾ [طه: 45]؛ أي: نخاف أن يعجل بعقابنا بالقتْل أو بغيره من العقوبات، قبل أن نبلغه الدعوة، ومع هذا الأمن الذي وعد الله به الرسولين، بقي الأمر بالقول اللين قائمًا، لطاغية تجرأ، فقال لقومه: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، وقال لهم: ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ [القصص: 38].
إن القول اللين في الدعوة إلى الله لا يعني بحال من الأحوال تجاوز الثوابت، ولا يعني التهاون في أمور الدين، فإن الله لما أمر موسى وهارون بالقول اللين، قال لهما – سبحانه – أن يبلغا فرعون الدعوة بكل وضوح، بدون مداهنة أو تمييع؛ ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ﴾ [طه: 47 – 48].
إن الدعوة إلى الله – تعالى – تقتضي الموازنة؛ بغية أن تؤتي ثمارها، فإنها تعاني أحيانًا خَلَلاً في الأسلوب، حين يعرض الحق بأسلوب غليظ، وهو في غالب الأحيان لا يحتاج إلى هذه الغلظة؛ لأن قوة الحقِّ كامنة في وضوحه وقوته الذاتية، وأحيانًا يعرض الحق مشوهًا مبتورًا؛ بحجَّة الرغبة في استعمال اللين، وكلا الأسلوبين لا يوصل إلى نتائج مرضية، فالمنهج القرآني أولى بالاتِّباع في هذا المجال، كما هو واضح في سير الأنبياء – عليهم السلام – في القرآن الكريم.
أ.د.زيد بن عمر العيص